الاثنين، 26 مايو 2014

نحو تدقيق مفهوم المواطنة وتشخيص عوائق تكريسه في المغرب




مستشار برلماني عن الفيدرالية الديمقراطية للشغل
لا شك أن لكل مرحلة في تاريخ المجتمعات مفاهيمها الخاصة التي تؤطر طريقة تفكير الأفراد والجماعات وتحدد طبيعة العلاقات القائمة بينهم.
ولا تقتصر جدلية الفكر واللغة هاته على إنتاج مفاهيم جديدة تستجيب للتحولات التي تطرأ على علاقة الفكر بالأشياء وبالعالم، بل إنها تعمل أيضا على تحسين المحتوى السيمانطيقي للمفردات والمفاهيم في اتجاه توسيع هذا المحتوى أو تضييقه أو تعديله بشكل من الأشكال.
ولهذا نجد كبريات المعاجم تميز بين دلالات متعددة لمفهوم واحد حسب المجالات والسياقات التي يوظف ضمنها ( السياسة، الأخلاق، القانون، الفلسفة، الدين...إلخ) بل منها ما يميز بين المعنى الإثمولوجي والمعنى الاصطلاحي، بين المعنى القديم والمعنى الحديث للمفهوم الواحد.
وتشمل حركية المفهوم كل مجالات النشاط الإنساني وعلى رأسها النشاط السياسي باعتباره أكثر هذه النشاطات حركية وتحولا وصراعا، حيث يشكل المفهوم أداة أساسية وفعالة لترسيخ فكرة الطرف الذي يحسم الصراع لصالحه، وإن بشكل مؤقت.
وارتباطا بالنشاط السياسي بالمغرب، واكب مرحلة الانفتاح السياسي منذ التسعينات دخول عدة مفاهيم جديدة في القاموس السياسي المغربي كمفاهيم التوافق، التراضي، التناوب، التناوب التوافقي، العدالة الانتقالية ... إلخ، كما لوحظ الإقبال المكثف على توظيف بعض المفاهيم كالحداثة، التحديث، الديمقراطية،المجتمع المدني، المواطنة، حقوق الإنسان...إلخ و المثير للانتباه أن توظيف هذه المفاهيم يتم دون حرص على تدقيق محتواها الدلالي كما لو أن هذا الأخير في غاية البداهة في حين أنه من المعلوم أن دلالة مفهوم المواطنة مثلا- والذي سيشكل محور هذه الورقة- في الفكر السياسي الحديث تكاد تختلف تماما عن دلالته في الفكر اليوناني أو القروسطوي بل تختلف حتى عن الدلالة التي استعملها الثوار الفرنسيون في إعلان 1789، حيث اكتسى المفهوم في كل محطة من هذه المحطات محتوى دلاليا عكس حالة تطور الفكر و صراع المصالح و المذاهب وتفاعل الأبعاد السياسية، الدينية، الاقتصادية و الثقافية في حياة هذه المجتمعات.
أكثر من هذا، لم يقتصر توظيف مفهوم المواطنة على الخطاب السياسي للفاعلين بل تعداه إلى تأسيس تنظيمات سياسية تحمل اسم المواطنة ( حزب القوات المواطنة) وتنظيمات مدنية ( منتدى المواطنة) إضافة إلى الترويج لفكرة المقاولة المواطنة اقتصاديا و التوظيف الإعلامي للمفهوم ( برنامج روح المواطنة في القناة الثانية) هذه الأمثلة وغيرها تثير مجموعة من التساؤلات حول دلالة هذا المفهوم في السياق الثقافي و السياسي المغربي الراهن، فإلى أي حد يسمح هذا السياق بالحديث عن مواطنة بالمغرب؟ وهل يعكس استعمال المفهوم من طرف الأجهزة الإيديولوجية للدولة تحولا حقيقيا من دولة الرعايا إلى دولة المواطنين؟ أم أن الأمر مجرد تجسيد للواقع النيوباترمونيالي للدولة يستهدف توظيفا حربائيا لمفهوم حداثي كواجهة لواقع يحكمه نمط علاقات تقليدية ما قبل حداثية.
إن طرحنا لهذا التساؤلات الإشكالية يستمد مشروعيته من كون مفهوم المواطنة، وإن كان خاضعا للحركية السالفة الذكر التي يخضع لها كل مفهوم فإن ذلك لا يعني أنه مجرد غلاف فارغ يمكن أن نودع فيه ما شئنا من المضامين دون ضوابط، بل يحيل على دلالة واضحة في اللحظة الراهنة لتطور الفكر البشري، على الأقل من وجهة النظر القانونية، ولذلك وجب تدقيق هذا المفهوم قبل أن نحاول توظيفه كأداة علمية لفهم علاقة الفرد بالدولة في المغرب.
I- عناصر لتعريف مفهوم المواطنة:
إن أي محاولة لعزل مفهوم المواطنة لا يمكن أن تستساغ إلا لأغراض منهجية بحتة تقتضيها متطلبات الدراسة والتحليل، ذلك أن هذا الأخير جزء لا يتجزأ من منظومة الفكر السياسي الحداثي التي قوامها الديمقراطية، حقوق الإنسان، المجتمع المدني والمواطنة، بل هناك من يذهب إلى حد اعتبار المواطن الحر بمثابة الأخ التوأم للدولة الديمقراطية اللذان نشأ معا في خضم تحولات عصر النهضة الأروبي.
و بالفعل فقد تطور تحديث الدولة القومية في أوربا بتناغم مع تحول في طبيعة العلاقة بين الأفراد و الدولة، ففي الفترة ما بين القرنين 17و 18، وبعد صراع طويل ضد الاستبداد، تحول الرعايا الذين كانت وظيفتهم تقتصر على الخضوع لسلطة متعالية إلى مواطنين شركاء كاملي الحقوق بموجب عقد اجتماعي تحت قيادة سلطة قومية ذات سيادة. ويتأسس هذا العقد على مجموعة قوانين يخضع لها الجميع على قدم المساواة، و التي تستمد مشروعيتها من رضا المواطنين أنفسهم. وبموجب هذا العقد الذي تعمل الديمقراطيات الحديثة على احترامه، يكون مقابل الخضوع لقوانين الدولة هو التزام هذه الأخيرة بضمان مجموعة من الحقوق الأساسية لمواطنيها بما في ذلك حق المشاركة في تدبير الشأن العام و مراقبة الدولة عبر تنظيمات المجتمع المدني. غير أن ذلك لا يعني أن مستوى مشاركة المواطن في الحياة السياسية الذي بلغته الديمقراطيات الغربية قد تحقق دفعة واحدة، بل كان نتيجة مخاض عسير ودموي أحيانا كثيرة، ففي فرنسا مثلا لم يتم إقرار حق التصويت للنساء إلا سنة 1915 أما في الولايات المتحدة فإن الاقتراع العام لم يطبق بشكل فعلي إلا منذ ما يزيد قليلا على ربع قرن حينما قدم تشريع يضمن لسكان الولايات الجنوبية السود ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية.
وقد كانت آخر مراحل تبلور مفهوم المواطنة في الديمقراطيات الغربية بمناسبة الأزمات الكبرى التي عاشتها هذه الدول حينما أدرك الفرد – المواطن أن العقد الاجتماعي يجب أن ينفتح كذلك على مجموعة من الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية وهو ما تبلور في إطار دولة الرعاية.
انطلاقا من هذه العناصر يمكن أن نستنتج أن تبلور مفهوم المواطنة مشروط بظهور الفرد كذات حقوقية أمام الدولة. فإلى أي حد يمكن الحديث عن مواطنة بهذا المعنى في السياق السياسي الثقافي المغربي؟ وهل يعبر مفهوم المواطنة كما هو مستعمل في القاموس السياسي المغربي عن المحتوى الدلالي للمفهوم كما حددناه آنفا أم أنه مجرد توظيف فوقي يعكس رغبة وأملا في توفر الشروط السوسيو ثقافية لتحقق المواطنة أكثر مما هو تعبير عن واقع متحقق بشكل فعلي؟
-
II عوائق تكريس ثقافة المواطنة بالمغرب.
إن محاولة تجميع بعض عناصر الإجابة على هذه الأسئلة تستوجب تجاوز كل نزعة وثوقية دوغمائية تسعى إلى إخضاع الواقع واختزال تناقضاته وتشعباته في فكرة جاهزة كما تستوجب التساؤل عن مدى توفر بنيات استقبالية سوسيو ثقافية في المجتمع المغربي تضمن التعاطي الإيجابي مع مفهوم المواطنة كجزء من منظومة قيم وأفكار الحداثة واستبطانه ليصبح معطى أصيلا من ضمن الأطر المرجعية التي تصدر عنها الذات " ذات المواطن" المغربي – في أفعالها وسلوكاتها.
وفي هذا السياق يمكن أن نزعم بقدر غير قليل من الثقة أن المعطيات السوسيو ثقافية للمجتمع المغربي تحتضن مجموعة من الظواهر التي يمكن اعتبارها عوائق أمام انبثاق الفرد كذات حقوقية أمام الدولة أي كمواطن في نهاية المطاف.
1 - امتدادات خطاطة العلاقات العائلية إلى المستوى السياسي:
شكل التأثير الكبير للروابط العائلية والقبلية في تحديد البنيات الاجتماعية و الثقافية العربية أهم العوامل التي اعتمدها الباحثون في الأنتربولوجيا، التاريخ وعلم السياسية لتفسير فشل الدول العربية في خلق مناخ حقيقي للمواطنة المبنية على حقوق وواجبات محددة بدقة، حيث تبقى العائلة مركز التنظيم الاجتماعي، والسياسي و الاقتصادي و أداة أساسية لإعادة إنتاج الثقافة السائدة في الوقت ذاته. وإذا كان التضامن الأسري قد ساهم في التخفيف من حدة الاختلالات التي يخلفها منذ الاستقلال الفشل في تحقيق تنمية مندمجة في المغرب، فإن الوجه الآخر للعملة يتجسد في تكريس مختلف أشكال السلطة الأبوية وعرقلة كل إمكانية لظهور علاقة استقلال ونضج بين الدولة والمواطن وهي العلاقة التي لازال يهيمن عليها نموذج العلاقة بين الأب (السلطوي و الكريم في الوقت ذاته) والابن ( التابع و الخاضع) حيث يستمر رئيس الدولة في لعب دور أب الجميع.
2- منافسة أشكال الولاء التقليدي للولاء للدولة.
يمكن القول أن مفهوم المواطنة لم يتم تكريسه إلا في أحضان الدولة القومية و التي سعت من أجل ضمان احتكار سلطة الإكراه إلى القضاء تدريجيا على أشكال الولاء للكيانات الفرعية التي انصهرت في بوثقة الدولة القومية كالعشيرة والقبلية أو احتوائها على الأقل، وهو شرط لم يسمح التطور التاريخي للتشكيلات الاجتماعية في المغرب بتحقيقه، حيث تستمر القبيلة و العشيرة في منافسة الدولة في استقطاب ولاء الأفراد، و لعل السلوك الانتخابي في المغرب خير مؤشر على ذلك، إذ يشكل العنصر العائلي متغيرا أساسيا في العمليات الانتخابية من ترشيح وتصويت، بل أكثر من ذلك غالبا ما تعتمد القبيلة كقاعدة خلفية من طرف العديد من الأحزاب المغربية ( ارتباط أحزاب العائلة الحركية بقبائل الأطلس المتوسط و الصغير) كما يتضح غياب أو ضعف الولاء في سلوك بعض النواب، خاصة في العالم القروي، حيث يتصرفون كنواب للدوائر الانتخابية التي انتخبتهم أكثر مما يتصرفون كنواب للأمة التي يفترض أنهم يمارسون السيادة الشعبية باسمها وليس باسم دائرتهم الانتخابية.
ويترتب على ضعف الولاء للدولة اختلالا في العلاقة بين الدولة و المواطن الذي قد يعتبر حقوقه على الدولة غنيمة وواجباته إزاءها اعتداءا وسلبا لحقوقه، ولعل أبرز نموذج لذلك يتجلى في طريقة تعاطي الإنسان المغربي مع الضريبة التي لا يعتبرها مسألة أداء واجب مقابل خدمات عمومية مما يفتح الباب أمام شرعنة كل وسائل الغش و التحايل و التهرب الضريبي، ولذلك ليس من الغريب أن تنطلق بعض الدراسات حول الديمقراطية في العالم العربي من تحليل تصور"المواطنين" للضريبة كأحد أهم المتغيرات لفهم عوائق التحديث و الديمقراطية.
3- ضعف ثقافة القانون:
إن ظهور المواطن بالمعنى المذكور أعلاه، أي كذات حقوقية أمام الدولة رهين ليس فقط بتوفر الهياكل المؤسساتية و القانونية التي تسمح للمواطنين بالاستفادة من حقوقه و استردادها و الدفاع عنها، ولكنه رهين أيضا بمدى تشبع هذا المواطن بثقافة القانون. والمقصود بثقافة القانون هو اقتناع المواطن بأن الاحتكام إلى القانون هو وحده الكفيل بضمان تمتعه بحقوقه واسترجاعها في حالة ضياعها منه. وتفترض ثقافة القانون، بهذا المعنى، توفر عنصرين أساسيين فيما يخص علاقة المواطن بالدولة:
أولا: ضرورة التغطية القانونية لكل نقاط تماس علاقة المواطن بالدولة على كل المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والثقافية ... إلخ.
ثانيــــــا: توفر حد أدنى من المساواة بين المواطنين و غياب كل أنماط العلاقة الزبونيـــة والعلاقات الشخصية التي يؤدي اللجوء إليها إلى إفراغ النصوص القانونية من أي محتوى حقيقي.
لاشك أن علاقة المواطن بالدولة في المغرب لا زالت حافلة بمجموعة من المعوقات التي تحول دون توفر هذين العنصرين وغيرهما، حيث أن الترسانة القانونية لم يتم استكمالها بعد ( قانون الأحزاب، قانون الفنان الذي شرعت حكومة اليوسفي في تهيئه ...إلخ ) وبالإضافة إلى ذلك لا تزال عوامل القرابــــــة و الزعامة و الشرف تلعب دورا مركزيا في تنظيم العلاقة بين المواطن والدولة إذ يميل الأفراد و إلى الاعتماد على هذه العناصر للحصول على حقوقهم أو استعادتها أكثر من اعتمادهم على القانون، و لعل أبرز مؤشر على ذلك هو أن نسبة النزاعات بين المواطن والإدارة التي تحل باللجوء إلى المحاكم الإدارية أضعف بكثير من نسبة النزاعات التي يتم حلها عن طريق العلاقات الشخصية مما يفسر ضعف عدد الدعاوى المسجلة أمام هذه المحاكم سنويا منذ إنشائها.
إن هذه العوائق السوسيو ثقافية تبين إلى حد بعيد ضرورة إعادة الاعتبار للبعد الثقافي كشرط لفهم البعد السياسي في المشروع التحديثي بالمغرب كما تبين أن التحدي الأكبر لعلم السياسة في المغرب هو الاشتغال على المفاهيم وتدقيقها باعتبارها الأدوات الأساسية في البحث العلمي، بل يمكن اعتبار المفاهيم في علم السياسة و العلوم الاجتماعية عموما بمثابة المقدمات (بالمعنى المنطقي للكلمة) التي تشرط النتائــــج و بالتالي فمن كانت مقدماته (مفاهيمه) خاطئة سيكون خطأ نتائجه مجرد تحصيل حاصل.
مع اعتماد نفس المنهجية المشار إليها أعلاه بالنسبة لكل القطاعات ولكل صنف مهني ليتم تعميم التصريحات على جميع المأجورين الذين يتوفرون على علاقة شغل سواء بواسطة عقد شغل مكتوب أو دون توفره، وكيفما كانت تأدية الأجر.
وإذا ما تفهمنا بان المقاولة لا يمكنها أن ترفع الحد الأدنى القانوني للأجر إلى أربعة آلاف وخمس مائة درهم في الشهر على الأقل لتغطية حاجيات العيش إلا انه لا يمكن أن نفهم عدم التصريح أو التلاعب فيه، ولذلك يجب وضع قطيعة مع هذه الثقافة المعادية لقانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ولقانون الشغل ومن دون شك أن المقاولة المغربية تعاني من صعوبات أمام ارتفاع حدة المنافسة إلا أن ذلك لا علاقة له بالتهرب من التصريحات بل على العكس من ذلك فتعميم التصريحات سيحمي حقوق العمال وحقوق المقاولات التي تطبق القانون بتوحيد التكلفة، ويقوي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حتى يتمكن من القيام بالدور المنوط به على الوجه المطلوب.


ليست هناك تعليقات: